عَرض مسرحيّة "مَلاذ" على مَسرح القطان
عُرضت مسرحية "مَلاذ" يوم السبت 1 تشرين الثاني 2025، على مسرح مركز القطان الثقافي – رام الله، في ختام مشروع "صوت – قصة – حياة" الذي نُفذ بالتعاون مع مدرسة طقس للمسرح، وبدأ العمل عليه في تموّز الماضي من العام الحالي، مع مجموعة مميّزة من الشباب والشابات، خاضوا رحلة مسرحية امتدت ستةَ أشهر، طوّروا فيها مهاراتهم في التعبير الكتابي، والشفوي، والجسدي، من خلال العمل الجماعي والتعاوني، محوّلين أفكارهم إلى نصوص، وصولاً إلى إنتاج هذا العمل المسرحي المتكامل، بما يعكس رؤاهم وتجاربهم.
تَأخذنا هذه المسرحية في رحلةٍ رمزيةٍ إلى عالمٍ يتحول فيه الدماغ إلى سجن للأفكار، وتحوّل فيه الأحلام إلى مادة بيانية مخترقة وقابلة للتلاعب والتحكم بها، وتُحاصر بالأدوات التكنولوجية المتطورة وأجهزة الذكاء الاصطناعي. في هذا العالم، لم تعَد الأحلام رفاهية، بل هي وسيلة لإثبات الوجود والمقاومة حيث يسعى أبطال الحكاية إلى بناء واقع جديد، أو "ملاذ"، فيما يقابل هذا السجن الرقمي محاولاتهم بالحصار.
أَدناه تقرأون مداخلة كتبتها الفنانة المتخصصة في مجال المسرح والدراما العلاجية؛ بترا برغوثي، ومنسّقة مكتبة ليلى المقدادي القطان؛ ياسمين العيسة، حول تجربة المشروع، بعنوان "المسرح كملاذ - قراءة في مشروع "صوت، قصة، حياة"".
-------------
المَسرح كَمَلاذ - قراءة في مشروع "صوت، قصة، حياة"
يُعَدّ المسرح في السياق الفلسطيني أكثر من مجرّد وسيلة للترفيه أو العرض الفني؛ إنّه مساحة مقاومة ثقافية ورمزية، وملاذٌ يمكن توظيفه كمساحة لتعبير الجيل الجديد عن هويته وتجربته الجمعية. في ظلّ واقعٍ سياسي واجتماعي معقد، حيث تتعثر الأحلام الفردية وتُصادر الطموحات الجماعية، يبرز المسرح كأداة لإعادة إنتاج المَعنى، وكفضاء يحفظ للإنسان كرامته وصوته. من هذا المنطلق، تشكّل تجربة مشروع "صوت، قصة، حياة" نموذجاً يستحق التأمل في كيفية تفعيل المسرح كمساحة للتعبير والمشاركة المجتمعية.
أطلق مشروع "صوت، قصة، حياة" بشراكة بين مدرسة طقس للمسرح ومؤسسة عبد المحسن القطان، مستنداً إلى ورش الكتابة الإبداعية المخصصة لليافعين/ات، ويقوم المشروع على مبدأ توفير مساحة آمنة لهم، تُمكّنهم من التعبير عن ذواتهم وتجاربهم بطرق فنية مبتكَرة، وتحويل قصصهم الفردية إلى نصوص مسرحية تحمل أبعاداً اجتماعية وإنسانية. تكمن أهمية هذه التجربة في أنّها لا تُقدّم للفرد فرصة للتعلم الفني فحسب، بل تمنحه إمكانية إعادة صياغة علاقته بالعالم عبر أدوات المسرح. فالمسرح هنا يتجاوز بُعده الجمالي ليصبح أداة نقدية ومجتمعية، تتيح للفرد إنتاج خطاب بديل، يوازي في قوته أثر الخطابات السياسية والاجتماعية السائدة. وبذلك، يتحوّل المشروع إلى مختبر ثقافي يشتبك مع أسئلة الهوية، والحرية، والانتماء.
مسرحية "مَلاذ"
يُعد النص المسرحي الذي نتج عن هذا المشروع تجسيداً عميقاً لما ترغب هذه المجموعة اليافعة في قوله والبوح به حول علاقتها مع المجتمع والواقع والمستقبل. وقد اتخذت المسرحية من مقهى "مَلاذ" فضاءً درامياً، لتقدّم شخصيات تحمل في داخلها تناقضات القوة والعجز، الأمل واليأس، والقدرة على الحلم والحرية. ويجسّدُ هذا النصَّ على خشبة المسرح المشاركون في المشروع، أي كتّاب النص وشخصياته الأساسية التي أبدعت في إنتاج القصة وحولتها لمسرحية، وهذا من جوهر عمل المشروع.
قدّمت المسرحية أمثلة دلالية على صراع الشباب مع الواقع، مثل شخصية زيد الذي يرى أحلامه "مشاريع دولية"، لكنها تتبدد أمام بيروقراطية الواقع الخانقة. أما مشهد التطعيم، فقدّم رمزاً صارخاً لواقع طبي يُدمَّر بشكل ممنهج، وما يُفترض أن يكون حقاً أساسياً للأطفال يتحوّل إلى معضلة، فيغدو الحلم ليس في تلقي اللقاح، بل في "رحلة لاكتشاف الواقع". كما عالجت المسرحية أثر التكنولوجيا كأداة استعمارية معاصرة، حيث تجسّد المشهد الأخير تحوّل الشخصيات إلى كائنات آلية بلا هوية فردية. الأصوات تصبح معدنيّة، والأفكار مجرد ترديد مشوّه لبعضها البعض، بما يعكس "الفوضى المبرمَجة" التي تنتج عن الإفراط في الاعتماد على الشاشات. وهنا قدّمت المسرحية قراءة نقدية للتكنولوجيا بوصفها شكلاً من أشكال الاحتلال المتسلسل للعقول.
من التجربة الفرديّة إلى الوعي الجماعي
إنّ القيمة الحقيقية للمشروع لا تكمن فقط في المُخرَج المسرحي، بل في التحولات التي خاضها المشاركون أنفسهم. فقد أتاح لهم المشروع فرصة لصياغة قصصهم وتجسيدها على المسرح، بعد خوض رحلة موازية لفهم ماضيها وحاضرها ومستقبلها بشكل عميق. تقول فاطمة: "لم أكن أتوقّع أن أكتب قصة أكون أنا بطلتها. 'صوت' هو نحن ورأينا، و'قصة' هي تجربتنا، و'حياة' هي أن نعيش ما نؤمن به على المسرح أو في الحياة". أما حلال فتلخّص أثر التجربة بقولها: "كم هو مهم ومبدع أن نخلق قصصاً وشخصيات من محض خيالنا، ومن ثم نقوم بتجسيدها على خشبة المسرح، شيء يشعرني بالقوة والفخر والإنجاز". يتجاوز بذلك المشروع البعدَ الفني ويتحول إلى أداة تمكين نفسي ووجداني، حيث جرّب المشاركون والمشاركات صياغة رؤاهم عن العالم، ومشاركتها مع جمهور أوسع.
المسرح كمَلاذ للمجتمع
يؤكد مشروع "صوت، قصة، حياة" ومسرحية "مَلاذ" على أن المسرح لا يزال يحتفظ بدوره التاريخي كمنصة جماعية للتفكير والتغيير. إنه "مَلاذ" بالمعنيين: مَلاذ فردي للشباب والشابات الذين وجدوا فيه فضاءً للتعبير عن أنفسهم، ومَلاذ جماعي للمجتمع الفلسطيني الباحث عن أدوات جديدة لصياغة هويته ومقاومة محاولات محوه. بهذا المعنى، يصبح المسرح في السياق الفلسطيني فعلاً وجودياً قبل أن يكون ممارسة فنية. إنّه مساحة لإعادة كتابة الذات، وإعلان الوجود في وجه العدم، وتجسيد الحلم. بذلك، لا تكون مسرحية "مَلاذ" مجرد عرض عابر، بل تجربة ثقافية عميقة تعيد الاعتبار لصوت الشباب الفلسطيني، وتثْبت أن المستقبل يبدأ من قدرتهم على تحويل "الصوت" إلى "قصة"، و"القصة" إلى "حياة".
هكذا، تعتمد استراتيجية المشروع على مبدأ أن بناء المجتمع يبدأ من الداخل، بالاعتماد على طاقاته الذاتية وأفراده. في هذا السياق، تُعد فئة اليافعين حجر الزاوية، فهم القوة الدافعة والمستقبل الحقيقي للمجتمع الفلسطيني. يتيح لهم المسرح فرصة التعبير عن هويتهم وتحدياتهم بأسلوب فني عميق، مما يساهم في بناء وعي جمعي جديد. هذا الوعي هو أساس التحرر، والقدرة على الحلم، وتحقيق الحرية، وبالتالي يمثل المشروع نحتاً عميقاً في الوعي الجماعي نحو التغيير.